لقاء مع الشيخ عدنان إبراهيم

 لقاء مع الشيخ عدنان إبراهيم


قال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في كتابه مع الله: "إن الداعية المسلم في عصرنا هذا يجب أن يكون ذا ثروة طائلة من الثقافة الإسلامية والإنسانية العالية..أن يكون عارفا للكتاب والسنة وجامعاّ لعلوم الدنيا والفقه الإسلامي وحضارات الشعوب وعلوم اللغة. ملما بالتاريخ الإنساني وعلوم الكون والحياة والثقافات الإنسانية القديمة منها والمعاصرة التي تتصل بشتى المذاهب والفلسفات .

وهنا منَّ الله على الجالية الإسلامية برجل رزقه الله فكرًا عميقًا، وثقافة إسلامية و علمية واسعة، ومعرفة رحيبة بالإسلام، فأثمر ذلك عن تجمع الكثيرين حوله .

والشيخ عدنان إبراهيم وهبه الله فصاحة وبيانًا، يجذب من يجلس إليه، ويأخذ حديثه بمجامع القلوب فتهوي إليه، مشدودة بصدق اللهجة، وروعة الإيمان، ووضوح الأفكار، وجلال ما يعرض من قضايا الإسلام. خُطبه ودروسه ملتقىً للفكر و العلم ومدرسة للدعوة في أي مكان يحلّ به، فقد وهبه الله ملكة أن يملك مشاعر مستمعيه حين يخطب. 

رجل إصلاح، عالم بداء المجتمع الإسلامي ودوائه في شتَّى ربوعه، وهب حياته للعلم و وقفها على كشف العلل، ومحاربة البدع وأوجه الفساد في لغة واضحة لا غموض فيها ولا التواء. يجهر بما يعتقد أنه صواب دون أن يلتفت إلى سخط من لايعجبه قوله؛ أويبالي بغضب من لا يسمع من كلامه إلا آخره أو أوله، دون أن يكلف نفسه أذن سماع كلامه كله. الشيخ عدنان يحرّكه إيمان راسخ وشجاعة مطبوعة، ونفس مؤمنة.

ولايخفى علينا جميعا أن وسائل الإعلام النمساوية تهتم بالتقاط مايقوله الشيخ من كلمات معتدلة تدعو إلى اندماج إيجابي للأقليات المسلمة داخل المجتمعات الغربية يحافظ على الهوية ويحقق الفاعلية والمشاركة، فمسجده ملتقى لزمرة الإعلاميين الأجانب منهم والمحليين. فهو يحاول أن يحيى أمة، وأن يصلح جيلاً، ويفتح طريقًا. أن يربي شبابًا، ويبنى عقولاً، ويرقِّي فكرًا. وهو حين ينصح تجده حكيماّ، وحين يعطى تجده كريماّ. 

وحسبنا شهادة أمثال العلامة الشيخ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي الذي قال : إن العلماء كل منهم يحمل بيده مصباحا أما الشيخ عدنان فقد زوده الله بمصابيح يضيئ بها ما يتناوله من موضوعات، وصرح العلامة البوطي أنه وجد في الشيخ عدنان العالم الموسوعي الجامع الذي تمناه دائما و لكنه كان يظن وجوده أمرا نظريا، وقد سئل العلامة البوطي عن الشيخ في محاضرة عامة فشهد بأنه لم يلتق في حياته كلها بمثله. اللهم أعطه فى العلم زيادة، وثبته على الحق يا أرحم الراحمين.


المولد والنشأة

وفي محاولة للإقتراب أكثر من فكر ونشأة الشيخ عدنان أجرينا معه هذا اللقاء لتعريف القارئ -وخاصة من أبناء الجالية المسلمة بالنمسا- بنشأة وجذور تجربته الدعوية والعلمية الموسوعية. 

وحول نشأة وجذور تجربته الدعوية و العلمية الموسوعية يقول الشيخ عدنان إبراهيم: "أنا من أهل فلسطين المحتلة وولدت في معسكر النصيرات بمدينة غزة عام 1966.. و التي كانت تحت الرعاية المصرية قبل نكستنا ـ أو نكبتنا ـ في1967. وفي هذا المعسكر إعتدنا على المنظر المخوف لجنود الإحتلال الصهيوني الذين يختالون بدبابتهم وعرباتهم المصفحة ويقتحمون علينا البيوت في فحمة الليل كما في بياض النهار".

في هذا المعسكر ووسط أجواء الإحتلال البغيضة أبصر الشيخ عدنان النور واستقبل حياته وزاول هناك تعليمه، وحفظ كتاب الله الكريم فى طفولته.. إلي جانب إطلاعه وإلمامه ببعض أمهات الكتب الشرعية وتطوافه الذي لم ينقطع في عوالم المعرفة ودنياها الفسيحة .. أتم تعليمه الثانوى بغزة .. سافر إلى يوغسلافيا ( البوسنه حالياّ ) لدراسة الطب. ومع إندلاع الحرب العرقية بالبلقان لم يتم الشيخ دراسته، التي كان قاب قوسين أو أدنى على الإنتهاء منها .. جاء إلى النمسا زائرا ثم آثر الإستقرار بها.

وبفضل الله منَّ سبحانه وتعالى على جاليتنا الإسلامية بالنمسا بواحد يبسط علوم الدين ويربطها بمستجدات العصر في خطب يجتمع لها المئات من أبناء الأقلية المسلمة. بدأ الشيخ عدنان الخطابة والدعوة إلى الله والدروس العلمية فى مختلف العلوم الشرعية والإنسانية والكونية وغيرها بمسجد الهداية بفيينا ..ثم أسس جمعية لقاء الحضارات التي تشرف على إدارة مسجد الشورى .

ويواصل الشيخ عدنان حديثه قائلا: "أذكر من نشأتي الأولى في الدراسة أنه لوحظ عليَّ تميزي في فن الرسم. وأذكر أنني كذلك كنت أتجافى الحفظ و أنحاز إلى الفهم و التبرير فلم أحفظ إلا مضطرا قبل دخول الفصل بدقائق أو بعد دخوله، وكان الأساتيذ يعتقدون أنني أجتهد في حفظ ما يوكل إلينا حفظه من شعر أو قطع نثرية أو حتى آيات قرآنية. في حين كان الواقع أنني ألقي نظرات مكثفة على الصفحات قبل أن أدلف إلى الفصل أو أسمع بتركيز ما أود حفظه من زملائي بعد دخول الفصل حين يشرع بعضهم في تسميع محفوظه فما هو إلا أن أسمع واحدا أواثنين حتى أكون قد حفظت المطلوب مني وعند التسميع لا تسجل علي بفضل الله هنات ."


إعتزاز الشيخ بأساتذته

وعن أساتيذه يقول الشيخ عدنان: "من الله علينا بأستاذـ يرحمه الله رحمة واسعةـ يدعى الأستاذ محمد الحنفي قد تقلد إمامة مسجدنا مسجد النصيرات- مسجد القسام حاليا-كان عالما في النحو وفي اللغة العربية أيضا بل عاشقا لهما، استطاع أن يحبب إلينا علوم العربية وكذلك العلوم الشرعية من أقرب سبيل، مؤيدا ـ بعد فضل الله تعالى ـ بقوة على ما هو فيه، متوسلا بأساليب التشجيع و إلهاب الهمة، حتى أنه كان يستطار فرحا للجواب يأتي به أحدنا عن عويصات المسائل ومن لطيف ما أذكر من النوادر التي وقعت لي معه –كما يقول الشيخ عدنان-: أنه قال لنا في مطلع السنة الدراسية الخامسة و هي السنة الاولى التي بدأ يدرسنا فيها : أنا أحب من التلاميذ المجتهد النجيب، و أحذركم من التعلل بالنسيان أو الحسبان، فعندي لا مكان ل : نسيت أو حسبت، التلميذ المجتهد هو عندي كبعض ولدي أو أحب، فلابد أن تثبتوا جدارتكم حتى تحظوا بمحبتي وتقديري. وسأفضي إليكم بمعلومات كثيرة، على أن أسألكم بعد سنتين كاملتين عن بعض ما ألقيه إليكم في أوائل هذه السنة، من باب التحدي لهممنا والإيقاظ لذاكرتنا، وكذا كان، فبعد انصرام العامين وقف يذكرنا بذلك ثم ألقى إلينا سؤالا عن إسم بيت الظبي وكان تلاه علينا منذ عامين فلم يوفق أحد إلى تذكره إلا أنا بفضل الله سبحانه و منته "الكناس".

ويضيف الشيخ: "أشهد للأستاذ محمد الحنفي أنه هو الذي ربطنا بالكتاب عامة وليس بالكتاب الدراسي فقط، فقد أنشأ لنا مكتبة صغيرة كان من حسن الطالع أن كان فيها إلى جانب العبرات والنظرات للمنفلوطي وبعض كتب العقاد وطه حسين سلسلة "الناجحون "، وهي سلسلة لبنانية تتحدث عن نوابغ الرجال من الشرق والغرب، شاقتني هذه السلسلة كثيرا و لذت لي، وأوجدت في نفسي دافعية هائلة أن أنضم إلى لواء هذه الأسرة الكريمة من النابهين و النابغين، فمن يدري ؟".


العلم إصطفاء إلهي؟!

ويواصل الشيخ حديثه عن الذين شجعوه و نموا فيه روح الإطلاع وعشق المعرفة فيذكر شيخا حبيبا له عليه الكثير من الأيادي البيض : الدكتور محمد حماد . يقول : وقد كنت في تلكم الفترة أقرأ بنهم وشغف شديدين، حتى إتفق مرة أن انتبهت إلى أنني لم أذق غمضا ليومين كاملين، شغلا بقراءة مجلد ضخم لمحمد فريد وجدي، ولم يكن يتخالجني أدنى أمل في أن أصير يوما أحد العلماء، ذلك أنني كنت أعتقد أن علماء الدين يولدون علماء، ضرب من ضروب الإصطفاء الإلهي، كما يصطفى الأنبياء والرسل الأمر الذي انعكس في نفسي على شكل إجلال غير عادي ـ مزيج من الهيبة و المحبة المفرطين ـ للعلماء وأهل الله.

إلآ أن الله جل ذكره أراد أمرا آخر، و إذا أراد سبحانه أمرا هيئ أسبابه، فقد أهداني أخ حبيب فاضل ـ عبد الرحمن الجمل، الذي هو الآن عالم جليل متخصص في علوم القراآت، و حاصل على أعلى الإجازات فيها، وفقه الله و سدده ـ كتابا للشيخ محمد الغزالي ( تأملات في الدين والحياة ) قرأت في سطوره الأولى قوله يتحدث عن نفسه : أنه ما كان يتخيل وهو في طفولته ـ ولا أحد من القريبين منه ـ أنه سيصبح يوما داعية إلى الله، عالما من علماء الدين، يا لها من إشارة أدركت معها أن العلم الشرعي يتحصل عليه بالجد والمثابرة، شأنه في ذلك شأن كل علم، فانفسح أمامي أمل عريض وتمهدت لي طريق كنت أظنها من قبل لا تصلح لي ولأمثالي. 

ويضيف الشيخ أذكر أنه كان يأتينا في السنة مرة أو مرتين عالم جليل من علماء فلسطين في الداخل وهو الشيخ العالم المجاهد إسماعيل الجمل حفظه الله و أمتع به، وكان يقال لنا أن هذا الرجل التقى بسيد قطب رحمه الله بواسع رحماته وبات معه ليال وأنه عالم كبير. كانت هيئته هيئة العلماء وبزته بزتهم، يقرأ القرآن بنغمة رخيمة وخشوع تشعر معها أنها قراءة عالم لا قراءة إنسان خفيف الوزن متشبع بما لم يعط، صوت يمس حقا شغاف القلوب.

بعد ذلك ينطلق معه طلاب العلم ومحبو العلماء إلى منزل آل الجمل ـ و هي أسرة ذات علم و صلاح وفقهم الله و نفع بهم ـ حيث ينزل ضيفا. وكنت أسمع من هذا الرجل مالا أسمعه من الوعاظ في مسجدنا، حيث كان يتحدث عن الأسماء الكبيرة مثل ابن حزم والشاطبي والغزالي والشهرستاني. ولم أكد أصدق مرة نفسي حين سمعته يتحدث عن الشهرستاني و ملله ونحله، و أين أنا إذ ذاك من ذلكم، فالشهرستاني نقرؤه بالواسطة لا مباشرة، فقد تردد ذكره كثيرا في كتاب الدكتور محمد البهي ( الجانب الإلهي )، إذن فأنا أمام عالم من قامة البهي، هكذا بدا الأمر لي وقتها ". 

ويضيف الشيخ عدنان: "وأذكر أن الشيخ محمد حماد باركه الله قال إنهم بصدد إجراء مسابقة لحفظ جزء عم وأن الجائزة ستكون كتبا ففرحت بذلك ورغم أني كنت أتجافى عن الحفظ ولا أحبه فقد حفظت جزء عم بين الظهر والعصر وكنت الأول وأخذت مجموعة من الكتب. وبعد عدة أشهر أعلنوا عن جزء تبارك فحفظته بين المغرب والعشاء بحمد الله. وآخر ثمانية اجزاء من كتاب الله حفظتها في سبعة أيام".

و مما إتفق لي مع الشيخ محمد حماد أن رأى مرة بيدي كتابا في الفلسفة، فقال لي : أين أنت من أصول الفقه؟ إستدللته على كتاب فيه ـ وكانت أول مرة أسمع فيها بهذا العلم ـ فدلني على كتاب الشيخ خلاف رحمه الله، فقرأته و لخصته ـ على عادتي التي إستمرت معي زهاء عشرين سنة ـ و في اليوم التالي أتيته بينا هو يلقي درسا في الفقه و قلت له : لقد قرأت كتاب الشيخ خلاف، فرمقني بنظرة سريعة ثم عاد إلى ما كان فيه، فأثر ذلك في نفسي كثيرا، فعدت إليه قائلا : لقد قرأته ولخصته، فقال متعجبا : ماذا؟ أرني، و ألقى على الدفتر نظرة تحقق معها أن الأمر جد، فقطع درسه وقام فانتحى مع ثلاثة من إخواننا ناحية ثم قال : أنظر أنا لن أسألك سؤالا سهلا، بل سأسألك سؤالا صعبا، أيمكنك أن تذكر لي الفرق بين العلة والحكمة؟ أجبت : سأحاول، وشرعت على استحياء وخوف أجيب بما ظهر بعد جولة سريعة في علم لا يزيد عهدي به على ليلة و بعض يوم، ولما انتهيت قام الرجل يصرخ : أشهد أنني قد فهمت هذه المسألة جيدا، و أنها وضحت لي الآن تماما، يا فلان وفلان ويا فلان قوموا عن هذا الشاب ـ وكنت حينها في نحو الرابعة عشرة ـ حرام أن نضيع عليه من وقته ساعة.


هواجس أنطولوجية

وينتقل الشيخ عدنان بحديثه إلى تجربته مع الشكوك والهواجس الوجودية التي اعترته في مطلع صباه فيقول: "في الفترة المبكرة من حياتي كانت تجتاحني هواجس وجودية وشكوك أنطولوجية ـ عرفت بعد وقت طويل أنها راودتني مبكرا قبل أوانها ـ تنصب في معظمها على القضايا الأكثر أهمية وخطورة : قضية وجود الله قضية دواميته تعالى ذكره، أزليته وأبديته، فكرة الخلود والأبدية كانت تؤرقني ولم أكن أستطيع تصورها وهضمها وكانت تراودني هذه الوساوس بشكل مستمر حتى إنني كنت أحيانا أقف في منتصف الطريق دون وعي مني فور أن تحل بساحة ذهني هذه الأفكار.

ولم يكن لدي من الجرأة والشجاعة مايتيح لي أن أسأل أو أفضي بما يعتلج في نفسي ومايجتاحني من هذه الوساوس والشكوك إلى أستاذي مثلا ؛ لأنني كنت أعتقد أنني سأتهم بالكفروانحلال عقدة الإيمان، فكنت أطوي جوانحي على هذه الشكوك وعلى هذه الآلام الفكرية عسى أن يتيسر لي من يشفيني منها. حتى والدي حفظه الله ـ و أحسبه إن شاء الله من الصالحين والله حسيبه ـ لم أكن لأفضي له بشيئ من ذلك، رغم أنه كان في تلك الفترة المبكرة يشكل لي ـ إلى حد ما ـ مرجعية، ربما من أجل ما كنت أعلمه من صلاحه وما إتفق لي رؤيته من كراماته، وربما من أجل كتابه الضخم ـ جدا في ذلك الوقت ـ تفسير الجلالين الذي كنت أفتحه لأقرأ ولا أفهم شيئا. إلى أن يسر الله لي وأكرمني بدخول المسجد ـ الذي كنت أظن أنه وقف على الكبار فقط، لا يجوز للصغار من أمثالي أن يجاوزوا عتبته المقدسةـ وجلست في أول صلاة جمعة أصليها أستمع للخطيب الأزهري ـ الشيخ طهبوب رحمه الله ـ وفي العصر عدت وكذا في المغرب وبعد صلاة المغرب إتفق لي شئ كان له أثر إنعطافي في حياتي، حيث دخلت مكتبة المسجد لأجد مئات الكتب مصفوفة تنادي على أمثالي بالجهل والحجاب، لم أكن أظن أن في الدنيا هذا الكم الهائل من الكتب، وكم كانت؟ لعلها لم تجاوز الألف، فدارت بي الأرض، فهذا كتاب يقع في 7 مجلدات إسمه (الأم) ووقع في وهلي أنه يدور حول الأم كما نكتب عنها في موضوعات الإنشاء والتعبير، وقد كنت أكتب ـ ما شاء الله ـ عشرات الصفحات في هذه الموضوعات و أشكالها، فبان لي وقتها أنني لا شيئ، ـ طبعا بعد حين لم يطل عرفت أن الكتاب ليس على ما وضعته عليه و حسبته، بل هو كتاب ـ بل كتب ـ للإمام الشافعي في الفقه الإسلامي الوسيع، كما رأيت إلى جانبه ليلتها كتاب (إحياء علوم الدين) في خمس مجلدات، خامسها هو عوارف المعارف للسهروردي، ثم ثمان مجلدات تحت عنوان( في ظلال القرآن) لسيد قطب و وو ووو ... كتب كثيرة.


من هنا تعلم

ويروي الشيخ عدنان بعض ما إتفق له في تلك الليلة المباركة، يقول : "جاء رجل ـ أبو الحسين الشريف ـ عرفت بعدها أنه أستاذ، رجل صالح ومن حملة كتاب الله، حيانا تحية الكبار وكان لهذا أثر عظيم في نفسي، كما خاطبنا بما لم يكن يخاطب به إلا الكبار، مثل : بارك الله فيكم..وجعل يسألنا : مثل من تحب أن تكون يابني؟ فمن قائل : مثل مصعب بن عمير ومن قائل مثل خباب إبن الأرت .. عبدالله بن عمر ..عمر .... ولاأخفي سرا أنني لم أكن أعرف أكثرما سمعت من أسماء، ولما جاء دوري قلت :لا أحب أن أكون مثل أي من هؤلاء. فارتسمت على وجه الشيخ الدهشة.. فواصلت قائلا: لأنني أحب أن آخذ من كل واحد منهم أحسن مالديه، فاعتنقي وقال بارك الله فيك يابني.

بعد أسابيع يسيرة أصبح الشيخ عدنان أمينا لمكتبة المسجد وقلت هذه فرصتك يا عدنان لتبحث عن جوابات للأسئلة التي تؤرقك..و حدث أن فتحت يوما أدراج المكتبة التحتية فوجدت مجموعة من الكتب وقد كتب عليها بقلم أزرق: تمنع قراءته.. ممنوع قراءته.. فيه رواسب. بعض هذه الكتب كانت لمصطفى محمود كـ"حوار مع صديقي الملحد" و"الماركسية والإسلام" فكانت الوصية المكتوبة إغراء لي بمخالفتها، و ـأحب شيئ إلى المرء ما منعه ـ والعجيب أنني وجدت في تلك الممنوعات ما أقنعني وأسعدني مما لم يكن يحسن الشيوخ قوله، أو لا يريدون، فأفرخ روعي وسكن فؤادي ورأيت أن ألقي العصا بعد أن إستقر بي النوى، ولم أدر أن هذه كانت البداية الجديدة ".


البدايه الجديدة

ويستطرد الشيخ عدنان قائلا: "بعد فترة أحسست ـ بل أيقنت ـ أن ماعند وعاظنا لايكاد يغنيني، كانت مواعظ وخطبا مكرورة تقول الشيئ نفسه وتراوح في مكانها، أسمع وأتساءل ما الذي أفدته؟ قنطار خروب ودرهم عسل ـ كما يقول المثل التركي ـ ماجعلني أجتهد على نفسي أكثر وأكثر..ولكن أن تتعلم على نفسك وأن تكون أستاذ نفسك وشيخها مسألة شاقة حقا، فالمعارف كثيرة وبالتالي فالأسئلة كثيرة ومتزايدة في حقول شتى، كنت ربما أشتري الكتاب وأقرأ فيه فلا أكاد أفهم شيئا". 

أذكر أنني إشتريت كتابا فلسفيا عن "التاريخانية" فلم أفهم معنى التاريخانية..أي أنني مطرود من الباب، لعلي كنت إبن ثنتي عشرة سنة، بعد سنين أمكن التعامل مع ذاك الكتاب بعد أن طال إنتظاره مع أمثاله من الكتب على رفوف المكتبة المتنامية، ولكني كنت أفهم وأستفيد من كتب محمد و سيد قطب والشيخ القرضاوي والشيخ الغزالي، و عماد الدين خليل والبوطي ... ، كان أول درس ألقيته على الكبار و ليس الصغار فقط عبارة عن تلخيص أمين لكتاب للعلامة البوطي ".

ويضيف الشيخ: "أول مرة قرأت فيها إشارة عن نظرية النسبية لألبرت أينشتاين أستطيع أن أقول أنها أحدثت زلزالا في نفسي لأن لها علاقة بهمومي وشكوكي الأنطولوجية، بيد أنها قاربتها من منظور جديد علي الكلية تماما : تمدد الزمان، إنكماش الزمان، نسبية الزمان والمكان والكتلة، كنت أسأل الذين يكبرونني وكلي أمل أن يستطيعوا الإجابة عن بعض تساؤلاتي حول ما لم أستوعبه من مفهومات هذه النظرية الغريبة، فلم أجد عندهم شيئا فواصلت رحلة التلمذة الصعبة على النفس".


المثقف يتابع دائما

ويقول شيخنا الكريم: "توسعت دائرة مداركي عندما قرأت في الفلسفة والعلوم العقلية والكونية أيضا وبدأت أدرك حاجتي إلى تعديد المناظير ما وسعت الهمة وإستوعبت الملكة، كما أدركت أنني سرت في طريق لا نهاية لها : من المحبرة إلى المقبرة، كما قال الإمام أحمد بن حنبل رضوان الله عليه، وأن الشبر الثالث في هذه الطريق ليس ينتهي إلى غاية إلا أن تكون إعلامك بأنك لا تعلم شيئا، وقد أحسن ما شاء من قال : " العلم ثلاثة أشبار من قطع الشبر الأول تكبر ومن قطع الشبر الثاني تواضع ومن قطع الشبر الثالث علم أنه لايعلم،  فلا تكن أبا شبر"، فالعلم مؤشر للجهل، أن تعرف مدى جهلنا مسألة لا تتحقق إلا بمقدار علمك، أما الجاهل فأكثر المعضلات والألغاز والمحيرات عنده مفهومة وسهلة، وعلامات الإستفام قليلة جدا، ورحم الله إمامنا الشافعي حين يقول : 

كلما أدبني الدهر أراني نقص عقلي    و كلما ازددت علما زادني علما بجهلي

فالمثقف الشغوف له بداية مستمرة، وهو حين يقف يشعر أنه عاد من حيث بدأ، فالمعرفة دائرة أولها و آخرها سواء.


فترة المراهقة..شعلة نشاط

ويدلي الشيخ بدلوه في نظريات التربية وعلم النفس، حيث يقول: "أعتقد أن فترة المراهقة منجم للنشاط والفاعلية والفضول وأن على المربين أن يعنوا بفتح طرق الثقافة والفكر والعلم أمام المراهق، مشيرا إلى أن بعض علماء النفس يرون أن الذكاء يتوقف في سن الـ18 ..ولكنه يقول : أنا لاأحب أمثال هذه النظريات الجبرية الحتمية المغلقة، بل أحب وأنحاز إلى النظريات المفتوحة التي تعطي الإنسان إمكانيات مفتوحة.

لذلك إذا قارنا بين النظريات التحليلية النفسية والنظريات السلوكية أجدني رغم مايبدو عليه المنهج السلوكي من بساطة وإختزالية REDUCTION إلا أنني أجدني متعاطفا مع هذا المنهج أكثر لأنه يعد ببداية متجددة دوما NEVER TOO LATE في حين أن المنهج التحليلي النفسي يغلق هذه الإمكانات ويجعل الإنسان رهنا للسنوات الفائتة من عمره وبالذات السنوات الخمس الأولى والأمر لابد أن يكون أوسع من ذلك.

شاركه على جوجل بلس

Grini

الموقع لا علاقة له بالدكتور عدنان إبراهيم وهو مجهود شخصي لجمع علم وفكر الدكتور ومن نهج نهجه في مكان واحد. وكل ما ينشر على الموقع لا يعبر بالظرورة على فكر القائمين عليه. لذا وجب التنبية
    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيس بوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق