أرَقٌ عَلى أرَقٍ وَمِثْلي يَأرَقُ = وَجَوًى يَزيدُ وَعَبْرَةٌ تَتَرَقْرَقُ
جُهْدُ الصّبابَةِ أنْ تكونَ كما أُرَى = عَينٌ مُسَهَّدَةٌ وقَلْبٌ يَخْفِقُ
مَا لاحَ بَرْقٌ أوْ تَرَنّمَ طائِرٌ = إلاّ انْثَنَيْتُ وَلي فُؤادٌ شَيّقُ
جَرّبْتُ مِنْ نَارِ الهَوَى ما تَنطَفي = نَارُ الغَضَا وَتَكِلُّ عَمّا يُحْرِقُ
وَعَذَلْتُ أهْلَ العِشْقِ حتى ذُقْتُهُ = فعجبتُ كيفَ يَموتُ مَن لا يَعشَقُ
وَعَذَرْتُهُمْ وعَرَفْتُ ذَنْبي أنّني = عَيّرْتُهُمْ فَلَقيتُ منهُمْ ما لَقُوا
أبَني أبِينَا نَحْنُ أهْلُ مَنَازِلٍ = أبَداً غُرابُ البَينِ فيها يَنْعَقُ
نَبْكي على الدّنْيا وَمَا مِنْ مَعْشَرٍ = جَمَعَتْهُمُ الدّنْيا فَلَمْ يَتَفَرّقُوا
أينَ الأكاسِرَةُ الجَبابِرَةُ الأُلى = كَنَزُوا الكُنُوزَ فَما بَقينَ وَلا بَقوا
من كلّ مَن ضاقَ الفَضاءُ بجيْشِهِ = حتى ثَوَى فَحَواهُ لَحدٌ ضَيّقُ
خُرْسٌ إذا نُودوا كأنْ لم يَعْلَمُوا = أنّ الكَلامَ لَهُمْ حَلالٌ مُطلَقُ
فَالمَوْتُ آتٍ وَالنُّفُوسُ نَفائِسٌ = وَالمُسْتَعِزُّ بِمَا لَدَيْهِ الأحْمَقُ
وَالمَرْءُ يأمُلُ وَالحَيَاةُ شَهِيّةٌ = وَالشّيْبُ أوْقَرُ وَالشّبيبَةُ أنْزَقُ
وَلَقَدْ بَكَيْتُ على الشَّبابِ وَلمّتي = مُسْوَدّةٌ وَلِمَاءِ وَجْهي رَوْنَقُ
حَذَراً عَلَيْهِ قَبلَ يَوْمِ فِراقِهِ = حتى لَكِدْتُ بمَاءِ جَفني أشرَقُ
أمّا بَنُو أوْسِ بنِ مَعْنِ بنِ الرّضَى = فأعزُّ مَنْ تُحْدَى إليهِ الأيْنُقُ
كَبّرْتُ حَوْلَ دِيارِهِمْ لمّا بَدَتْ = منها الشُّموسُ وَليسَ فيها المَشرِقُ
وعَجِبتُ من أرْضٍ سَحابُ أكفّهمْ = من فَوْقِها وَصُخورِها لا تُورِقُ
وَتَفُوحُ من طِيبِ الثّنَاءِ رَوَائِحٌ = لَهُمُ بكُلّ مكانَةٍ تُسْتَنشَقُ
مِسْكِيّةُ النّفَحاتِ إلاّ أنّهَا = وَحْشِيّةٌ بِسِواهُمُ لا تَعْبَقُ
أمُريدَ مِثْلِ مُحَمّدٍ في عَصْرِنَا = لا تَبْلُنَا بِطِلابِ ما لا يُلْحَقُ
لم يَخْلُقِ الرّحْمنُ مثلَ مُحَمّدٍ = أحَداً وَظَنّي أنّهُ لا يَخْلُقُ
يا ذا الذي يَهَبُ الكَثيرَ وَعِنْدَهُ = أنّي عَلَيْهِ بأخْذِهِ أتَصَدّقُ
أمْطِرْ عَليّ سَحَابَ جُودِكَ ثَرّةً = وَانظُرْ إليّ برَحْمَةٍ لا أغْرَقُ
كَذَبَ ابنُ فاعِلَةٍ يَقُولُ بجَهْلِهِ = ماتَ الكِرامُ وَأنْتَ حَيٌّ تُرْزَقُ
"مما نظمه (أبو الطيب – المتنبي) في صباه"
(في شرح الأبيات):
(أرقٌ على أرقٍ ومثلي يأرقُ ... وجوى يزيدُ وعبرةٌ تترقرقُ)
- يقول لي سهادٌ بعد سهادس وعلى أثر سهاد ومثلي ممن كان عاشقا يسهد لامتناع النوم عليه وحزن يزيد كلَّ يومٍ عليه ودمع يسيل ويقال رقرقت الماء فترقرق مثل أسلته فسال.
(جهدُ الصبابة أن تكون كما أرى ... عينٌ مسهدةٌ وقلبٌ يخفقُ)
- الجهد المشقة والجهد الطاقة والصبابة رقة الشوق يقول غاية الشوق أن تكون كما أرى ثمّ فسره بباقي البيت.
(ما لاحَ بَرقٌ أو ترنمَ طائرٌ ... إلا انثنيتُ ولي فؤادٌ شيقُ)
- الشيق يجوز أن يكون بمعنى فاعل من شاق يشوق، كالجيد والهين، ومعناه أن قلبي يشوقني إلى أحبتي ووزنه فيعل وهو كثيرٌ مثل الصيب والسيد وبابه ويجوز أن يكون على وزن فعيل بمعنى مفعول ولمعان البرق يهيج العاشق ويحرك شوقه إلى أحبته لأنه يتذكر به ارتحالهم للنجعة وفراقهم ولأن البرق ربما لمع من الجانب الذي هم به وكذلك ترنم الطائر وذكرهما بهذا المعنى كثيرٌ في أشعارهم.
(جربتُ من نارِ الهوى ما تنطفي ... نارُ الغضا وتكلُّ عما تحرقُ)
- يقول جربت من نار الهوى نارا تكل نار الغضا عما تحرقه تلك النار وتنطفىء عنه ولا تحرقه يريد أن نار الهوى أشدّ إحراقاً من نار الغضا وهو شجرٌ معروفٌ يستوقد به فتكون ناره أبقى ومن روى يحرق بالياء فاللفظ ما.
(وعذلتُ أهلَ العشقِ حتّى ذُقْتُهُ ... فعجبتُ كيف يموتُ من لا يعشقُ)
- يذهب هوم في هذا البيت إلى أنه من المقلوب على تقدير كيف لا يموت من يعشق، يعني: أن العشق يوجب الموت لشدته وإنما يتعجب ممن يعشق ثم لا يموت وإنما يحمل على القلب ما لا يظهر المعنى دونه، وهذا ظاهر المعنى من غير قلبٍ وهو أنه يعظم أمر العشق ويجعله غاية في الشدة يقول كيف يكون موت من غير عشق أي من لم يعشق يجب أن لا يموت لأنه لم يقاس ما يوجب الموت وإنما يوجبه العشق. وقال بعض من فسر هذا البيت: لما كان المتقرر في النفوس أن الموت في اعلا مراتب الشدة قال لما ذقت العشق وعرفت شدته عجبت كيف يكون هذا الأمر المتفق على شدته غير العشق.
(وعذرتهم وعرفتُ ذنبي أنني ... عيرتهم فلقيتُ فيه ما لقوا)
- يقول لما ذقت مرارة العشق وما فيه من ضروب البلاء عذرت العشاق في وقوعهم في العشق وفي جزعهم وعرفت أني أذنبت بتعييرهم بالعشق فابتليت بما ابتلوا به ولقيت في العشق من الشدائد ما لقوا.
(أبنى أبينا نحن أهل منازلٍ ... أبداً غرابُ البينِ فينا ينعقُ)
- ويروى فيها يريد يا أخوتنا ويجوز أن يكون هذا نداءً لجميع الناس لأن الناس كلهم بنوا آدم ويجوز أن يريد قوما مخصوصا إما رهطه وقبيلته يقول نحن نازلون في منازلٍ يتفرق عنها أهلها بالموت وإنما ذكر عراب البين لن العرب تتشاءم بصياح الغراب يقولون إذا صاح الغراب في دارٍ تفرق أهلها وهو كثيرٌ في اشعارهم وقال ابن جنى يريد بغراب البين داعي الموت وهذا خلفٌ فاسدٌ ليس على مذهب العرب وداعي الموت لا يسمع له صياح والأمر في غراب البين اشهر من أن يفسر بما فسره به. وقد انتقل أبو الطيب من النسيب إلى الوعظ وذكر الموت ومثل هذا يستحسن في المراثي لا في المدائح.
(نبكي على الدنيا وما من معشرٍ ... جمعتهمُ الدنيا فلم يتفرقوا)
- يقول نبكي على فراق الدنيا ولا بد لنا منه لأنه لم يجتمع قوم في الدنيا إلا تفرقوا لأن عادة الدنيا الجمع والتفريق.
(أين الأكاسرة الجبابرةُ الأولى ... كنزوا الكنوزَ فما بقينَ ولا بقوا)
- الاكاسرة: جمع كسرى على غير قياس، وهو لقب لملوك العجم، والجبابرة: جمع جبار، والأولى بمعنى الذين ولا واحد لها من لفظها، يقول تحقيقا لفقدهم، أي هم الذين جمعوا الأموال لم يبقوا هم، ولا أموالهم.
(من كلِّ من ضاقَ الفضاءُ بجيشهِ ... حتى ثوى فحواهُ لحدٌ ضيقُ)
- من في أول البيت للتفسير يقول: اولائك الذين ذكرناهم من كل ملك كثرت جنوده حتى ضاق بهم الفضاء وثوى أقام في قبره فجمعه لحد ضيق يعني انضم عليه اللحد بعد أن كان الفضاء يضيق عنه.
(خرسٌ إذا نودوا كأن لم يعلموا ... أن الكلام لهم حلالٌ مطلقُ)
- يريد أنهم موتى لايجيبون من ناداهم كأنهم يظنون أن الكلام محرم عليهم لا يحل لهم أن يتكلموا ولو قال خرس إذا نودوا لعجزهم عن الكلام وعدم القدرة على النطق كان أولى وأحسن مما قال لأن الميت لا يوصف بما ذكره.
(فالموت آتٍ والنفوسُ نفائسٌ ... والمستغر بما لديهِ الأحمقُ)
- يقول: الموت يأتي على الناس فيهلكهم وإن كانت نفوسهم نفيسة عزيزة، والنفيس: الشيء الذي ينفس به أي يبخل به، والمستغر: المغرور، يعني أن الكيس لا يغتر بما جمعه من الدنيا لعلمه أنه لا يبقى ولا يدفع عنه شيئاً ومن لم يعلم هذا فهو أحمق، وروى عليّ بن حمزة والمستعزّ أي الذي يطلب العز بماله فهو الأحمق.
(والمرءُ يأملُ والحياةُ شهيةٌ ... والشيبُ أوقرُ والشبيبةُ أنزقُ)
- يقول: المرء يرجو الحياة لطيب الحياة عنده، والشهية المشتهاة الطيبة من شهى يشهى وشها يشهو إذا اشتهى الشيء فهي فعيلة بمعنى مفعولة والشيب أكثر وقارا والشبيبة وهي اسمٌ بمعنى الشباب انزقُ أخفّ وأطيش ويريد صاحب الشيب أوقر وصاحب الشبيبة انزق والإشارة في هذا إلى أن الإنسان يكره الشيب وهو خير له لأنه يفيده الحلم والوقار ويحبّ الشباب وهو شرّ له لأنّه يحمله على الطيش والخفّة.
(ولقد بكيتُ على الشبابِ ولمتي ... مسودةٌ ولماءِ وجهي رونقُ)
(حذراً عليه قبلَ يومِ فراقهِ ... حتى لكدتُ بماءِ جفني أشرقُ)
- أي لكثرة دموعي كاد يشرق بها جفني أي يضيق عنها، يقال: شرق بالماء، كما يقال: غصَّ بالطعام وإذا شرق جفنه فقد شرق هو، ولذلك قال: اشرق، ويجوز أن يغلبه البُكاء فلا يبلعه ريقه ويكون التقدير بسبب ماء جفني اشرق بريقي.
(أما بنو أوسِ بن معنِ بن الرضا ... فأعز من تحدى إليه الأينقُ)
- أما لا تستعمل مفردةً لأن ما بعدها يكون تفصيلا، فيقال: أما كذا فكذا وأما كذا فكذا كقوله تبارك وتعالى (أما السفينة فكانت لمساكين)، ثم قال: (وأما الغلامُ)، (وأما الجدارُ) وقد استعمله مفردا وهو قليل.
وروى الأستاذ أبو بكر الرضا بضم الراء قال: وهو اسم صنمٍ واراد ابن عبد الرضا كما قالوا ابن منافٍ في ابن عبد منافٍ، وروى غيره بكسر الراء وهو المعروف في اسماء الرجال والأينق: جمع على غير قياسٍ وقياسه الانوق غلا أنهم ابدلوا الواو ياءً وقدموها على النون يقول: هؤلاء أعز من يقصدهم الناس.
(كبرتُ حولَ ديارهمُ لما بدت ... منها الشموس وليس فيها المشرقُ)
- جعلهم كالشموس في علو ذكرهم واشتهارهم أو في حسن وجوههم والمعنى كبرت الله تعالى تعجبا من قدرته حين اطلع شموسا لا من المشرق وكأن منازل الممدوحين في جانب المغرب.
(وعجبتُ من أرضٍ سحابُ أكفهم ... من فوقها وصخورها لا تورقُ)
- أي إذا كانوا يسقونها بندى أيديهم فلم لا تورق صخورها لفضل ندى أيديهم على ندى السحاب أي كان من حقها أن تلين حتى تنبت الورق. وهذا منقول من قول (البحتري)، أشرقن حتى كاد يقتبسُ الدجى، ورطبن حتى كاد يجري الجندلُ، ثم هو من قول أبي الشمقمق وكان مع طاهر بن الحسين في سميرية فقال: عجبت لحراقة ابن الحسين كيف تعوم ولا تغرق، فقال: وما أربك يا ابن اللخناء إلى أن تغرق، فقال: وحبرانِ من تحتها واحدٌ، وآخرُ من فوقها مطبقُ، وأعجبُ من ذاك عيدانها، وقد مسها كيف لا تورقُ.
(وتفوحُ من طيبِ الثناءِ روائحٌ ... لهم بكلِّ مكانةٍ تستنشقُ)
- يقال مكان ومكانة كما يقال منزل ومنزلة ودار ودارة وقال الله تعالى: (أعملوا على مكانتكم)، والثناءُ يوصف بطيب الرائحة لأن طيب اخبار الثناء في الآذان مسموعةً كطيب الروائح في الأنوف مشمومةً وتستنشق تطلب رائحتها بالأنوف والمعنى أن أخبار الثناء عليهم تسمع بكل مكان لكثرة المثنين عليهم.
(مسكيةُ النفحاتِ إلا أنها ... وحشيةٌ بسواهمُ لا تعبقُ)
- يقول: روائح ما يسمع من الثناءِ عليهم مسكيةٌ لها طيبُ المسك إلا أنها نافرةٌ لا تعلق بغيرهم ولا تفوح إلا منهم والمعنى لا يثني على غيرهم كما يثني عليهم.
(أمريد مثل محمدٍ في عصرنا ... لا تبلنا بطلابِ ما لا يلحقُ)
- يقول: يا من يريد أن يوجد له نظيرٌ لا تمتحنا بطلاب ما لا يدرك، والبيت من قول (البحتريّ)، ولئِن طلبتُ نظيرهُ إني إذا، لمكلفٌ طلب المحال ركابي، ثم أكد بقوله.
(لم يخلقِ الرحمن مثل محمدٍ ... أحداً وظني أنه لا يخلقُ)
- أي إذا كان الله تعالى لم يخلق له مثلا (صلوات ربي وتسليماته عليه وعلى آله وصحبه أجمعين)؛ وكأن طلب مثله محالا.
(يا ذا الذي يهبُ الكثير وعنده ... أني عليه بأخذهِ أتصدقُ)
- أي يعتقد أني إذا أخذت هبته فقد تصدقت بها عليه ووهبتها له فهو متقلد المنة بذلك ويوجب لي الشكر والتصدق اعطاء الصدقة وقال الله تعالى وتصدق علينا.
(أمطر على ساحبَ جودك ثرةً ... وأنظر إليّ برحمةٍ لا أغرقُ)
- الثرة الغزيرة الكثيرة الماء من الثرارة وقال عنترة، جادت عليه كلُّ عينٍ ثرةٍ، فتركن كل قرارةٍ كالدرهمِ، يقول اجعل سحاب جودك ماطراً على مطرا غزيرا ثم ارحمني بان تحفظني من الغرق كيلا أغرق في كثرة مطرك.
(كذب ابنُ فاعلةٍ يقولُ بجهلهِ ... مات الكرام وأنت حيٌّ ترزقُ)
- كنى بالفاعلة عن الزانية، يقول: كذب من قال أن الكرام قد ماتوا ما دمتَ في الأحياء مرزوق ويروى ترزق بفتح التاء أي ترزق الناس تعطيهم أرزاقهم والأول اجود لأنه يقال حيٌّ يرزق وذلك أنه ما دام حيّا كان مرزوقا لن الرزق ينقطع بالموت.
0 التعليقات:
إرسال تعليق